ان صياغة الفضة تستدعي من الصائغ حذق خاص وحرفية عالية ومعرفة تامة بمزايا وطباع المعدن. فبعد سباكة وصهر الفضة تحول أولا الى صانع مختص يدعى (( الجمـّاع)) وهو المختص بالجمع والتصفيح. والتصفيح هو تحويل سبائك الفضة الى صفائح مسطحة تأخذ السمك المرغوب فيه بغية تقطيعها للحصول على الهيئة المطلوبة. وبهذه التقنية تصنع الدلال والفناجين والطوس والأواني وعدد الحلاقة والصواني وعلب السجاير والسيوف والخناجر وغيرها، ويتم ذلك بطرق صفيحة الفضة يدويا بشكل متناسق على سندان حديدي حتى الوصول الى الشكل المطلوب . وتسخين الفضة يعد امرا ضروريا لتلافي التشقق الذي قد يحصل للصفيحة ، وعلى الصائغ معرفة درجة الحرارة اللازمة للتسخين فلا يتجاوزها كيلا تنصهر الفضة. ان عملية التصفيح (الجمع) عملية مرهقة ومعقدة وتحتاج الى زمن طويل فيختص بها نفر من الصاغة. ويستعين الجمّاع في عمله لتجسيم المصوغة بانواعا متعددة ومختلفة من السنادين والمطارق والقوالب.
وبعد ان ينتهي الجمـّاع من بناء النموذج تأتي عملية (البرد) التي تسبق النقش والحفر، ويقوم النقاش برسم اللوحة ونقشها وحفرها على قطعة الفضة باستخدام (( أقلام)) حديدية مثلثة بعد اسنادها اما على احدى ركبتيه او على مسند خشبي خاص يسمى ((الغزال)) . وبعد الحفر والنقش توشح اللوحة بالمينا السوداء وهي عملية ملء الفراغات الناجمة عن الحفر والحز بمسحوق هو خليط من الفضة والنحاس والرصاص والكبريت بنسب مدروسة ، ومن ثم تعرض القطعة لحرارة معينة تذيب هذا الخليط الذي يصبح فيما بعد وحدة متكاملة ذات جمالية وابداع مميز. ثم تخضع القطعة الفضية الموشحة بالمينا الى عملية برد دقيقة بمبارد خاصة ثم بورق الصنفرة (كاغد سمبادة) الى ان تظهر معالم اللوحة كاملة ، ثم تصقل يدويا بمواد صقل خاصة الى ان تصبح لماعة تأخذ بالأبصار.
استخدم هذا النمط الجمالي الفنانون ومهرة الصناع في العصريين الساساني والبزينطي وامتد الأخذ بتلك التقاليد الصياغية عبر أوربا في العصور الوسطى ، وبالرغم من العزوف عنها في اوربا في عصور لاحقة الا انها ظهرت في مناطق اسيوية امتدت من اسيا الصغرى وتوغلت لتبلغ مناطق في جنوب شرقي آسيا. وبعد اجتياح المغول للعالم الإسلامي هاجر الصناع المهرة من المدن العراقية والايرانية الى بقاع مختلفة أخصها الأناضول والقوقاز وآسيا الوسطى، حيث استمر الأخذ بتلك التقاليد وتوارثها الفنانون جيلا عن آخر بحيث وجدت أشكال متشابهة تبلغ حد التطابق لهذه التقنية في القطع المنفذة في تركيا والقوقاز والعراق وايران. الا ان اشكال النقوش وانماطها تختلف باختلاف تلك المناطق، فالتحف العراقية المندائية المطعمة بالمينا السوداء مثلا تتميز برسم المناظر الطبيعية او اجزاء منها كالنخيل والسفن الشراعية والزوارق والجمال والصحراء أو مآثر من التراث كالجوامع والآثار القديمة كإيوان كسرى وأسد بابل والتي تعكس براعة الصائغ المندائي في ابتكار العلاقة المتبادلة بين اللونين الفضي والاسود بين المساحة المليئة والفارغة.
لقد وصل هذا الفن الجميل في العراق ذروته على ايدي الصاغة المندائيين في الفترة مابين الحربين الأولى والثانية فأبدعوا في تطعيم الفضة بالمينا السوداء واشتهر بينهم الصائغ زهرون ملا خضر ونفر من عائلته مثل الصائغ المشهور حسني زهرون الذي ابدع في رسم صور (( البورتريت )) للأشخاص. كما برع آخرون في هذا المجال منهم عباس عمارة والشيخ عنيسي الفياض(الصائغ الخاص للملك فيصل الأول) وخليل مال الله (أصبح صائغ البلاط في زمن الملك فيصل الثاني وما تلاه من عهود) وياسر صكر الحيدر وجاني سهر وأحمد مجيد وصبري وعزيز عودة وجبار خضر الخميسي وأسمر زهرون وكثيرون غيرهم. لقد كان المندائيون ومازالوا الصاغة الوحيدون القادرون على تنفيذ هدايا الدولة العراقية التي تقدم لملوك ورؤساء الدول الأخرى، كما قاموا ببراعتهم المعهودة بأكساء معظم قباب وأبواب وجدران المراقد المقدسة في العراق بالذهب والفضة.
لقد اهتمت معظم الدول بالصياغة قديما وحديثا، فعلى سبيل المثال اولت الدولة العثمانية اهتماما كبيرا بهذه الحرفــة النبيلة، حيث قام السطان سليمان القانوني بانشاء دارا كبيرة للصياغة تحوي مشاغل عديدة. وكان للصاغة في عهده عيد موسمي يفتتحه السطان سليمان بحضور علية القوم حيث يتقدم كبار الصاغة في حفل ضخم لتقبيل يد السطان وتقدم له الهدايا من المصوغات الذهبية. كما نجد ان في اكثر الدول الأوربية حاليا معاهد وكليات متخصصة ـ ومنها جامعة كيلدهول في لندن ـ لتعليم مهنة الصياغة بكافة انواعها وفق الأساليب العلمية وتمنح الخريجين شهادات عالية توازي الماجستير والدكتوراه.
ولكن ما يؤسف له ان هذا الفن الجميل في العراق، وهو منشأ هذا الفن منذ القدم، في طريقه للإندثار، ان لم يكن قد اندثر فعلا وذلك لعدم قيام المندائيين بتأسيس مدارس أو مشاغل يتعلم فيها بانائهم هذه المهنة العظيمة ، كما كما ان الدولة العراقيــة لم تولي اهتماما بهذا النوع من الفنون فتدخله في المناهج التدريسية لأكاديمية الفنون الجميلة مثلا باعتباره ركنا اساسيا من اركان التراث العراقي القديم والمعاصر.